الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم قال: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدنيا وَلاَ في الأخرة} والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان:الأول: أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحدًا إلى عبادة نفسها وقوله: {فِى الأخرة} يعني أنه تعالى إذا قلبها حيوانًا في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين.والاحتمال الثاني: أن يكون قوله: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدنيا وَلاَ في الأخرة} معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقًا لاسم أحد المتضايفين على الآخر، كقوله: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] ثم قال: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة، ومع ذلك فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لابد وأن يكون مرده إليه؟ وقوله: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار} قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية، أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد، ثم قال: {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضًا خوفهم بقوله: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} ثم عول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال: {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال: {إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب} [غافر: 27] فتح نافع وأبو عمرو الياء من {أَمْرِى} والباقون بالإسكان.ثم قال: {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم، وتمسك أصحابنا بقوله تعالى: {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} على أن الكل من الله، وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله: {أفوض} اعتراف بكونه فاعلًا مستقلًا بالفعل، والمباحث المذكورة في قوله أعوذ بالله عائدة بتمامها في هذا الموضع.وههنا آخر كلام مؤمن آل فرعون، والله الهادي.{فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} اعلم أنه تعالى لما بيّن أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق، وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين، وقوله تعالى: {فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} يدل على أنه لما صرّح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء، قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه، وقيل المراد بقوله: {فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء العذاب} لا يليق إلا بالوجه الأول، وقوله تعالى: {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ} أي أحاط بهم {سُوء العذاب} أي غرقوا في البحر، وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} قال الزجاج {النار} بدل من قوله: {سُوء العذاب} قال: وجائز أيضًا أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير {سُوء العذاب} كأن قائلًا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}.قرأ حمزة {حاق} بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح أما قوله: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} ففيه مسائل:المسألة الأولى:احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدوًا وعشيًا، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} وليس المراد منه أيضًا الدنيا لأن عرض النار عليهم غدوًا وعشيًا ما كان حاصلًا في الدنيا، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدوًا وعشيًا عرض النصائح عليهم في الدنيا؟ لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين: الأول: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائمًا غير منقطع، وقوله: {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني: أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدينا، أما في القبر فلا وجود لهما، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب: عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار، لا أنه يعرض عليهم نفس النار، فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم، وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز، أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز، قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك، وأيضًا لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62] أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية، قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب؟ والله أعلم.المسألة الثانية:قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم {أدخلوا آل فرعون} أي يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم في أشد العذاب، والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار: أدخلوا أشد العذاب، والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة، واحتج عليها بقوله تعالى: {يُعْرَضُونَ} فهذا يفعل بهم فكذلك {أَدْخِلُواْ} وأما وجه القراءة الثانية فقوله: {ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ} وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون. اهـ.
|